ما بين الحنين والعتاب
الفصل الخامس: البكاء في صمت
كانت الشمس تتسلل بخجل من بين الغيوم، كأنها لا تزال تتردد إن كان هذا البيت يستحق دفأها ويحتاج إلى ضوئها الخافت.
دخلت "ماسة" إلى المنزل حاملة كيسًا صغيرًا وبعض الخبز، وما إن وضعت الأغراض على الطاولة، كانت ممتنة للمكتبة؛ لأنها أحيت فيها شعورًا جديدًا. لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ لمحت "قمر" جالسة قرب النافذة، تحدّق في الخارج بعينين خافتتين، وتُقلّب صفحات دفترها الصغير دون تركيز.
اقتربت منها "ماسة" ببطء، جلست على الأرض بجانبها، وقالت بصوت دافئ:
"ماذا تكتبين يا قمر؟"
لم تردّ في البداية، فقط نظرت إلى ماسة نظرة مطوّلة، ثم قالت وهي تمسك قلمها كأنه أثقل ما في يدها:
"أكتب عن أبي… لكنّي لا أعرف كيف أبدأ. لقد نسيت أشياء كثيرة، وأشعر أني أكتب عن شخص غريب، وليس عن أبي."
وضعت "ماسة" يدها على كتفها، فلم تنظر إليها "قمر"، بل تابعت بصوت مرتجف:
"في المدرسة، قالوا لنا أن نكتب عن شخص نحبه… فكتبت عن أبي… ثم مزّقت الورقة."
سألتها "ماسة" بهدوء:
"لماذا مزّقتها؟"
همست "قمر":
"لأنّي شعرت أني نسيت رائحته… نسيت صوته… فكيف أكتب عن شيء بدأت أنساه؟ خفت أن يكون وصفي له غير دقيق."
صمتت "ماسة" لحظة. شعرت أن قلبها يتفتّت، لا من الألم فقط، بل من عمق الحزن الذي يعيشه قلب أختها الصغير. كيف لم تلاحظ صمت "قمر" وحزنها؟
احتضنتها، ولم تقل شيئًا… ثم بعد لحظة، همست في أذنها:
"نحن لا ننسى يا قمر، فقط نحاول أن نعيش دون أن نبكي كل يوم…"
رفعت "قمر" وجهها وقالت:
"لكن أنتم تبكون في صمت… لا أحد يضحك، لا أحد يتكلم معي مثلما كان أبي يفعل… كلنا مثل البيوت المهجورة."
ضحكت "ماسة" بخفة، رغم ألمها، ومسحت دمعة صغيرة من خد أختها:
"نحن نحاول أن نكون أقوياء… لكن لا بأس لو بكينا أحيانًا… حتى البيوت تبكي إن تُركت وحدها."
ثم أمسكت بيدها وقالت:
"تعالي نرسم أبي… كما نتذكره… لا كما يهرب من ذاكرتنا. هل تعلمين أن أبي ينظر إلينا الآن وهو فخور بنا؟"
هزّت "قمر" رأسها موافقة، فنهضتا سويًا وجلستا على الطاولة، ترسمان صورة بسيطة لرجل طويل يبتسم، وحوله وردة وكتاب.
كانت تلك أول مرة منذ رحيله، تضحك فيها "قمر" بصوت واضح، وتقول:
"سأكتب أن أبي كان يحب أن يسمع ضحكنا… وسأضحك كثيرًا حتى يصل إليه صوتي."
ابتسمت "ماسة"، وشعرت أن ما في قلبها بدأ يلين، وأن البيت، الذي اعتاد الصمت، بدأ يسمع شيئًا آخر… يشبه الحياة.
وفي المساء، كانت "أمنية" تراقب ابنتيها من خلف باب المطبخ. لم تتكلم، فقط ابتسمت، ورفعت يدها تمسح دمعة خفيفة. لم تكن تعرف من أين جاءت تلك الدمعة… من الفقد؟ أم من الأمل الذي بدأ يخرج من تحت الركام؟
ما زالت واقفة، وتدعو أن تبقى ابنتاها هكذا، ويبتعد الحزن عن قلبيهما.
في تلك اللحظة، دخل "آدم" من الخارج، يحمل بيده أكياسًا صغيرة.
سأل وهو يضعها على الطاولة:
"أين ماسة؟"
ردّت "أمنية" بصوت هادئ:
"ترسم مع قمر… ضحكا قبل قليل."
وقف "آدم" مكانه. لم يعلّق، فقط أومأ بصمت.
أراد أن يشاركهما تلك اللحظة، لكنه لم يعرف كيف. لقد نسي كيف يضحك… كيف يمازح شقيقته.
ثم، فجأة، فُتح باب البيت دون سابق إنذار، ودخلت "سمية"… أخت والدهم، والتي كانت تستمع إليهم.
نظرت إليهم جميعًا بعينين غاضبتين، ثم قالت بصوت حاد:
"ضحك؟ رسم؟! هل وصلتم لمرحلة النسيان بهذه السرعة؟!"
تجمّد الجميع في أماكنهم.
تابعت وهي ترمي حقيبتها جانبًا:
"أحمد لم يمر على رحيله إلا أسابيع… وتضحكون؟ ترسمون صورًا؟ أنسيتم ملامحه؟ أنسيتم من كان يسهر ويعمل ويضحك لكم؟ هل انتهى كل شيء بهذه البساطة؟!"
نظرت إلى "ماسة" نظرة حادّة، ثم قالت:
"ظننتكِ الأهدأ… الأوفى. لكن يبدو أن الحزن عندكم مؤقت… مثل كل شيء. لو يأتي أحمد ويرى ابنته المدللة كيف نسته بهذه السهولة والسرعة…!"
لم تتكلم "ماسة"، لكن دمعتها سقطت.
وقفت "قمر" خلفها، تختبئ، فشعرت "أمنية" بالوجع على حال ابنتيها، وأن الفرحة التي شعرت بها قبل قليل اختفت… والسبب "سمية". فتقدّمت خطوة للأمام.
قالت "أمنية" بصوت هادئ لكنه حاسم:
"سمية، لسنا ننسى... نحن فقط نحاول أن نتنفس."
رمقتها العمة بنظرة مستغربة، ثم خرجت من الغرفة وهي تتمتم:
"تنفس؟! وأنا التي كنت أظنكم تموتون من الحزن عليه...!"
اختفت خلف باب غرفتها، وبقي في الجو توتر مكتوم، ونبضٌ متضارب بين الغضب والحزن.
لكن رغم قسوة كلمات "سمية"، لم تطفئ ذلك النور الذي وُلد اليوم.
ففي أعماق البيت… وللمرة الأولى، تحرّك شيء.
شيء يشبه بداية الشفاء.
في تلك الليلة، دخلت "ماسة" غرفتها بهدوء.
أغلقت الباب، وأسندت ظهرها إليه، كأنها تُغلق العالم بأسره خلفه.
لماذا لا تريد عمتها أن تراها سعيدة؟
هي فقط أرادت أن تخفف عن أختها الصغيرة.
سارت إلى مكتبها، وأخرجت من أحد الأدراج صورة قديمة لها مع صديقتها الوحيدة… "ملك".
كانتا تبتسمان، جالستين على الأرض وسط أكوام من الكتب.
همست "ماسة" وهي تحدّق في الصورة:
"لو كنتِ هنا يا ملك… لفهمتِ كل شيء. لعرفتِ كيف أفسّر هذا الركام بداخلي."
جلست على السرير، وضمّت الصورة إلى صدرها.
"يقولون لي كوني قوية… وأنا فقط أحتاج إلى من يضع يده على كتفي… ويصمت."
كانت "ملك" قد سافرت منذ أشهر مع عائلتها، ولم تعد.
أغلقت "ماسة" عينيها، وفي صدرها اشتياق لا يُقال… فقط يُحسّ.
تمتمت بصوت خافت:
"عودي يا ملك… فقط عودي، لأجد فيكِ أنا التي فقدتها."
ثم تمدّدت على سريرها، وفي قلبها صوت صغير يقول:
"غدًا… سأحاول من جديد."
لكن، ما الذي تُخفيه أم ماسة؟ ولماذا يظهر علي دومًا في لحظات التغيّر؟ وهل كانت وفاة الأب مجرد قَدَر... أم وراءها ما يُقلق؟
كل هذا، سيبدأ بالانكشاف في الفصل التالي.
الصورة المجهولة - الفصل السادس
كان الصباح ثقيلًا، تملأه غيوم رمادية كأنها تُخفي شيئًا في طيّاتها، شيئًا يُشبه ما يسكن هذا البيت من صمت وأسئلة معلّقة منذ زمن.
وقفت "ماسة" في المطبخ، تضع بعض الأغراض على الرفوف، حين التقطت أذنها صوتًا قادمًا من الغرفة المجاورة. اقتربت بخفة، فسمعت عمتها "سمية" تتحدث عبر الهاتف، بصوت خافت وقلق:
"لا، لا أستطيع الصمت أكثر… أحمد وعدني أن لا يعرفوا شيئًا… لكن الفتاة بدأت تطرح الأسئلة واريدها أن تعرف مللت من قول الكذب ما رأيك ان نجعلها تكشف السر بنفسها٬ حسناً حسناً سأصمت الآن سأغلق الخط."
شعرت "ماسة" برعشة تسري في جسدها.
أي فتاة؟ هل أنا من كانت تتحدث عنها؟
ما الذي كان والدها قد وعد به؟ وما الذي يُخشى أن يُكشف؟ ماهذا التشتت والغموض الذي أصبح مرعب بصورة قاسية؟
وقبل أن تجرؤ على التقدم أكثر، أنهت "سمية" المكالمة وخرجت من الغرفة، تلاقت نظراتها بنظرة "ماسة"، لكنها مضت بصمت.
ظلت "ماسة" واقفة، تحاول أن تُمسك بأنفاسها… لكن قلبها كان يخبرها أن هذا الصمت الطويل في البيت، لم يكن هدوءًا… بل عاصفة سوف تعصف بهم جميعاً.
في وقت لاحق، وعلى مائدة الغداء، قررت "ماسة" أن تضع حدًا لأسئلتها الصامتة.
نظرت إلى والدتها وسألت: "أمي… هل يمكن أن تخبريني شيئًا عن ماضيك؟"
رفعت "أمنية" عينيها إليها، وقد بدا على وجهها التردد والحيرة ماذا تخبرها فقد كانت خائفة من هذه الاسئلة طوال حياتها أين انت يا أحمد؟ أخبرني ما أجيب! وكيف أجيب عن هذا السؤال هو سؤال بسيط ولكني لا أملك الإجابة عنه...
تابعت "ماسة" بهدوء: "نحن نعرف كل شيء عن أبي، لكن لا نعرف عنكِ شيئًا… اريد ان اعرف أين جدي وجدتي ؟ لا أرى أهل، لا صور، لا ذكريات… من أين أنتِ أصلًا لم تخبرينا من قبل؟"
سادت لحظة صمت، ثم قالت "أمنية": "أنا من الجنوب… وُلدت هناك، لكن لم أعش فيه طويلًا. فقدت والدتي في سنّ صغيرة، أما والدي… فقد اختفى ذات ليلة ولم يعد. لم يكن أحد يرغب في الحديث عنه، وقيل عنه أشياء كثيرة لا أعرف هل اصدقهم أم ماذا! فأنا لم أراه منذ ان كنت طفلة ولقد قيل فيما بعد أنه قد مات."
نظرت "ماسة" إليها بتعجّب: "يعني لا تعرفين الحقيقة حتى الآن؟"
أجابت "أمنية" بصوت خافت: "ربما كنت أعلم… لكني اخترت أن أُغلق الباب."
لم تُكمل، ولم تُوضح، لكنها تركت في صدر "ماسة" فراغًا جديدًا… ظلّ بلا إجابة وأصبحت مشتتة في هذا السر الذي لم يخبرها به أحد من قبل.
في تلك الليلة، وبينما كانت "ماسة" تُرتّب بعض الأوراق على مكتبها، طرق الباب ودخل "آدم" ووضع ظرفًا بنيًا صغيرًا أمامها، قائلاً: "هذا وصلكِ بالبريد منذ أيام… نسيت أن أعطيكِ إياه ثم خرج لم يخبرها من هو الذي ارسله لها ولماذا الآن."
فتحت "ماسة" الظرف ببطء، لتتفاجئ حيث وجدت صورة قديمة، فيها امرأة تشبه والدتها مبتسمة، واقفة بجوار رجل لا تعرفه، أمام مبنى يبدو كأنه مستشفى قديم.
خلف الصورة، كانت هناك كتابة بخط يد غير مألوف:
"البعض لا يهرب… بل يُخفي. ابحثي عن المستشفى رقم ٤١ في المدينة القديمة."
شعرت "ماسة" بدمها يتجمّد، وعيناها تتسعان.
من هذه المرأة؟ أهي أمّها فعلًا؟ ومن أرسل هذه الصورة؟ ولماذا الآن؟
زادت حيرة "ماسة" اكثر ماذا يحدث؟ يا الهي .... ما هذه الأشياء؟ سوف افقد عقلي!" هل أنا الوحيدة التي لا تعرف أي شي ماذا عن آدم وقمر! هل اذهب واسألهم وأريهم الصورة ام التزم الصمت وابحث وحدي واجد هذه الاجابة؟
لم تستطع أن تغمض عينيها تلك الليلة…
"لقد بدأ الستار يُزاح ببطء… والماضي، الذي ظنته ميتًا، بدأ يهمس من جديد."
في مكان آخر، وفي نفس الساعة، كان "علي" جالسًا في مكتبة "الراية"، فتح درجًا قديمًا وأخرج صورة مشابهة… كانت "أمنية" فيها شابة، ترتدي نفس الفستان.
تنهّد وهو ينظر إليها وقال: "ما كنت أظن أن هذا اليوم سيأتي يا أمنية… ولكن كل الأسرار، في النهاية، تجد طريقها للنور."
من أرسل "الصورة المجهولة"؟
وما الذي تخفيه "أمنية" عن ماضيها؟
وهل المستشفى رقم ٤١ يحمل الحقيقة… أم بداية الضياع؟