رواية نبض الحكاية الفصل الثالث و الرابع

اقرأ المزيد من القصص على حساب الكاتبة في واتباد الفصل الثالث : العودة الى الضوء …

رواية نبض الحكاية الفصل الثالث و الرابع
المؤلف Alhillawi
تاريخ النشر
آخر تحديث

الفصل الثالث : العودة الى الضوء

منذ أن عادوا من العزاء، تغيّر كل شيء.

البيت لم يعد كما كان، وكأن الجدران نفسها صارت تتنفس بثقل.

الصمت لم يكن مريحًا… بل مخيفًا.

"قمر" توقفت عن الضحك، و"آدم" يدخل ويغلق الباب وراءه، كأن الحزن حائط يجب أن يتوارى خلفه.

أما "أمنية"، فقد أصبحت ظلًا في المطبخ، تحرّك الملاعق دون رغبة، وتنسى النار مشتعلة، وتنام وهي جالسة.

و"ماسة

عالقة في المنتصف.

لا تزال ترتدي عباءة الفقد، لكنها تشعر بثقلٍ أكبر من الحزن… كأن البيت بأكمله على كتفيها، ولا أحد يُلاحظ.

تفكر:

أين عائلتي الجميلة المحاطة بالحب؟

أين ثرثرة أختي الصغيرة؟

وأين أمي المرحة التي لا تكفّ عن الضحك والمزاح؟

وأخي… لماذا أصبح صامتًا ووحيدًا؟

لماذا رحلت يا أبي؟ لقد فقد البيت حياته منذ رحيلك.

في إحدى ليالي الأسبوع، جلست معهم على مائدة العشاء.

صوت الملاعق على الصحون كان أوضح من كلماتهم.

قال "آدم" فجأة، دون أن ينظر نحو أحد:

"لا يمكننا أن نستمرّ هكذا… لا بدّ أن يُمسك أحد بزمام الأمور ويتحمّل مسؤولية العائلة."

رفعت "أمنية" عينيها نحوه، وقالت بصوت متعب:

"أبوكِم توفّي منذ أيام يا آدم…"

لكنّ صوته جاء جافًا:

"أعلم يا أمي، لكن الحياة لا تتوقف. قمر تحتاج إلى من يُرافقها، والبيت بحاجة إلى تنظيم. لا يمكن لكلّ شيء أن يبقى ساكنًا."

تدخلت العمة "سمية" وهي تنظر إلى ماسة:

"البنت مكانها البيت. عليها أن تتعلم الطبخ والتنظيف. على ماذا تحصل إن درست وتعلمت؟ يكفي أن تعرف أمور البيت وتصبح جاهزة ليوم زواجها."

كان "آدم" ينظر إلى "ماسة"، وكأن عينيه تتّهمانها بأنها لم تفعل شيئًا سوى الصمت.

لم تجبه.

لكن عينيها امتلأتا بما لا يُقال.

في الليل، جلست على طرف سريرها، تحدّق في السقف.

كل شيء ساكن… كل شيء ثقيل.

شعرت أن شيئًا في صدرها يتكسر، لا صوت له، لكنه يترك أثرًا في أنفاسها.

في اليوم التالي، أنجزت ما يُطلب منها بصمت.

لم تناقش، لم تبرّر، فقط أدّت الدور الذي يليق بالابنة الكبرى.

ثم ارتدت عباءتها، وحملت حقيبتها الصغيرة، وخرجت.

لكن هذه المرة…

لم تكن تمشي بلا وجهة.

قدماها تعرفان الطريق، وقلبها بدأ يشعر بحاجة مختلفة…

ليست هروبًا، بل بحثًا.

بحثًا عن حل لهذا التفكير الذي أصبح يلازمها طوال الوقت.

وصلت إلى باب المكتبة.

نظرت إلى الزجاج، فرأت انعكاس وجهها شاحبًا، لكنه بدا أكثر وضوحًا من قبل.

رأت كم أصبحت عيناها حزينتين… فقدتا بريقهما.

تنهدت، ثم دفعت الباب ودخلت.

نفس الرائحة… نفس السكون… نفس الرجل خلف الطاولة.

رفع نظره إليها، وقال بهدوء:

"أهلاً بكِ مجددًا."

أجابت:

"أحتاج إلى شيء لا أعرفه… ربما كتاب، وربما أنا. لا فكرة لدي عما أريده."

لم يعلّق، فقط أشار بيده نحو رفّ جانبي:

"الرف الثالث… فيه كتب تبحث عن قرّاء لا يكتفون بالقراءة."

سارت نحو الرف.

لم تكن تنظر للعناوين، بل لما تشعر به بين السطور.

توقفت عند كتاب صغير يحمل عنوانًا بسيطًا:

"الذين صمتوا ثم نهضوا."

ضمّته إلى صدرها، ثم جلست في الزاوية نفسها.

فتحت الكتاب وبدأت تقرأ.

كل سطر كان كأنه ينفض الغبار عن قلبها.

كلمات لا تقول الكثير، لكنها تعني الكثير.

شعرت أن شيئًا يتحرّك في داخلها…

لا شفاء، بل بداية.

بعد ساعة، نهضت.

اقتربت من الطاولة، أعادت الكتاب، ثم نظرت إليه وسألته:

"هل تعرف ماذا أفعل إن قررت أن أبدأ؟"

نظر إليها وقال:

"إن أردتِ البدء… ابدئي. لا تنتظري إذن أحد."

صمتت… ثم ابتسمت.

كانت هذه الابتسامة الأولى منذ رحيل والدها.

خرجت من المكتبة.

لم تكن كما دخلت.

كانت لا تزال حزينة…

لكنها قررت أن تنهض من جديد.

الفصل الرابع: بداية التغيير

لم يكن الصباح مختلفًا عن الأمس. نفس الروتين المعتاد، إلا أن فتورًا جديدًا بدأ يتسلل إلى الأرواح.

استيقظت "ماسة" على صوت ارتطام الباب، فزّت من نومها كأن قلبها سُحب من صدرها. خرجت من غرفتها، لتجد "آدم" واقفًا قرب المدخل، تتطاير من عينيه شرارة غضب لم تفهمها.

قال دون أن يلتفت:

"ألم نتفق أن تتدبّري أمر الحليب وقوائم البيت؟! أمي لا تقوى على الخروج وحدها، أم تنتظرين من قمر أن تذهب؟! هي صغيرة، وهذه مسؤوليتك، فلا تتكاسلي عن أداء هذه الأمور البسيطة."

همست بخجل:

"كنت سأخرج بعد قليل... فقط شعرتُ بدوار."

ثم فكرت في صمت: تمنيت لو أن أحدهم يهتم بي أنا أيضًا… كل ما يفعلونه هو أن يطلبوا مني أن أتخطى وأعيش، دون أن يروا أنهم ما زالوا عند نقطة موت أبي.

رمقها بنظرة باردة، لكنه لمح شيئًا في عينيها، فعرف أنها تفكر بأبيها.

فقال بصوت أخفّ قليلًا:

"ماسة… كلنا متعبون. لكن لا أحد يسألنا إن كنا قادرين."

ثم خرج، وترك خلفه صمتًا ثقيلاً.

وقفت "ماسة" مكانها، تحاول أن تبتلع دمعتها التي علقت في الزاوية. لم يكن "آدم" قاسيًا، لكنها لم تعتد منه هذه الحِدّة. لعل غيابه الطويل جعله لا يرى كيف تتفكك الأمور بصمت داخل هذا البيت.

دخلت "أمنية" المطبخ ببطء، تسند ظهرها إلى الجدار، وقالت بصوت خافت:

"لا تعاتبيه... هو فقط لا يعرف كيف يُظهر وجعه."

أومأت "ماسة" دون رد. أمسكت بدفتر ودوّنت ما ينقصهم في البيت، ثم خرجت إلى السوق وهي تحاول أن تثبّت قدميها في شارع بدا واسعًا جدًا لخطواتها المترددة.

كم تمنت لو أن صديقتها تعود من السفر، فقد اشتاقت إليها كثيرًا... لعلها تخفف عنها هذا الحمل الثقيل.

مرّت في الطريق بمكتبة "الراية" مجددًا، لكنها لم تنظر إليها بوجل كما اعتادت. توقفت لثوانٍ، كأنها تنتظر من قدميها أن تتحرك، لكن الحقيقة أن ما بداخلها هو من همس:

"ادخلي... لا شيء يمنعك."

دخلت المكتبة. ارتفعت رائحة الورق في أنفها كأنها تستنشق ذاكرة قديمة.

كان أبي يحب القراءة… لعل هذا ما يجعلني أحب هذه المكتبة وأشتاق إلى دخولها كلما مررت من هنا.

كان "علي" يصف بعض الكتب الجديدة على الرفوف. حين لمحها، ابتسم وقال دون مبالغة:

"أهلًا بكِ مجددًا... أظنك وعدتِ بزيارة، وقد أوفيتِ."

قالت وهي تنظر للكتب:

"بل الكلمات هي من سحبتني... لا أنا."

ضحك بهدوء وقال:

"حسنًا... تلك الكلمات مدينة لي الآن."

تقدّمت "ماسة" نحو أحد الرفوف، وسألت بصوت خافت:

"هل لديكم كتب عن تخطّي الفقد؟"

تريد أن تعرف إن كان هناك من كتب عن ألمه وتجاوزه… وكيف فعل ذلك.

توقّف "علي" عن ترتيب الكتب، نظر إليها لحظة، ثم قال:

"كثيرة، لكن لا كتاب يعلّمنا كيف نعيد من فقدناه… فقط كيف نُعيد أنفسنا."

هزّت رأسها، وكأن شيئًا في قلبها اهتزّ.

هذا ما أريده… أن أُعيد بناء نفسي من جديد… أن أقف، وأساعد هذه العائلة الحزينة، دون أن أعتمد على أحد.

خرجت من المكتبة وفي يدها كتاب، وفي داخلها شعور بأنها بدأت تحفر طريقًا صغيرًا وسط الجدار السميك الذي أحاط بها منذ وفاة والدها. وسوف تتمسك بذلك الطريق… مهما حدث.

كانت تلك أول مرة تشعر فيها أن النور… قد يأتي من ورقٍ صامت.

دائمًا هناك أشياء تساعدنا دون أن تتحدث معنا بصخب، بل بمعاني خفية ترسلها لنا… ونحن من نقرر كيف نستعملها.

© 2025 - جميع الحقوق محفوظة

تعليقات

عدد التعليقات : 0