على عتبة المفاجآت
استيقظت "ماسة" متأخرة بعض الشيء، وكأن عقلها ظل مستيقظًا طوال الليل يُفتّش في تلك الصورة، والعبارة الغريبة، وصوت "سمية" الغامض.
نزلت إلى المطبخ بشعرٍ منفوش وعينين نصف نائمتين. لكن ما إن دخلت، حتى ارتفع صوتٌ مألوف:
"وأخيرًا استيقظت الأميرة النائمة! لو كنتُ أعتمد عليكِ في إنقاذ المملكة، لأكلنا التنين ونحن نائمون!"
شهقت "ماسة"، ثم صرخت: "ملك!!!"
أفلتت منها الضحكة كطفلة، وارتمت في حضن صديقتها التي وقفت بشعر مبلول، ترتدي قميصًا صيفيًا ملونًا وتحمل كوبًا من الشاي كأنها صاحبة البيت.
"احتليت المطبخ… وأظن أني اكتشفت وصفة سرية لأفضل شاي في الدنيا. اسألي قمر، ذابت من أول رشفة."
دخلت "قمر" من الخلف، وهي تضحك وتقول: "ملك قالت لي: الشاي الجيد مثل الحب… لازم يتغلّى!"
انفجرت الضحكات، لوهلة بدا وكأن الهمّ انزاح قليلًا، وكأن ملك جلبت شيئًا يشبه الحياة معها.
جلست الفتيات حول المائدة يتبادلن الاحاديث وما حدث مع كل منهما، ثم غادرت قمر تاركه المساحة الخاصة بالصديقتين٬ ثم التفتت "ملك" الى ماسة وسألتها بفضول وهي تلوّح بكعكة صنعتها:
"هيا، أخبريني بكل شيء. ما قصة الصورة التي أرسلتِ لي صورتها؟ ومن هو هذا الغامض في الخلفية؟ وما سر الكلمات التي كتبت خلف الصورة."
تنهدت "ماسة"، ثم سردت ما حصل باختصار، وبدت "ملك" كأنها تستعد لمغامرة بوليسية:
"إذًا… لدينا صورة… مستشفى… ورسالة مشفّرة؟! تمام، سأحضّر حقيبة التحقيق وسأستجوبكِ لاحقًا اولا لنحل هذه المسألة ونكتشف الحقيقة."
"وهل أنتِ محققة أم مهرّجة؟"
"أنا كلاهما. المهرّجة التي ستضحككِ حتى تعترفي بكل أسرارك. والمحققة التي تساعدكي لكي تفهمي ما يدور حولك."
بعد الضحك والمزاح، جلست "ماسة" مرة أخرى قرب النافذة تحتسي الشاي بصمت، ثم قالت بنبرة فيها شيء من التصميم:
"ملك… قررتُ أن أبحث عن عمل. لا أريد أن أبقى عالقة في الذكريات فقط. أريد أن أصنع شيئًا لنفسي… لعائلتي."
رفعت "ملك" حاجبيها بدهشة، وقالت بابتسامة مشجعة:
"هذا أكثر خبر أسعدني اليوم! عمل؟ وأين؟"
أجابت "ماسة" بفخر خفيف:
"في مكتبة صغيرة قريبة… طلبوا مساعدة مؤقتة، وأنا وافقت. شعرت أن الوقت حان لأبدأ، ولو بخطوة بسيطة."
صفّقت "ملك" بسعادة:
"العمل في مكتبة؟ يا بنتي هذه بداية عظيمة! كتاب من هنا… ومؤامرة عائلية من هناك! سنصنع فيلمًا من قصتك."
ضحكت "ماسة"، وقالت:
"بل سأصنع ذاتي… حجرًا بعد حجر."
في المساء، ذهبت "ماسة" و"ملك" إلى مكان هادئ ليتسنى لهن التفكير في كل شي ووضع الاحتمالات بدون مقاطعه أحد لتحقيقهن السري ومن ثم اخبرتها بالمكتبة التي كانت تقضي وقتها عند غيابها وبالشخص المسؤول عنها٬ضحكت "ملك" وقالت لقد فهمت لماذا تريدين العمل في المكتبة.
نهضت فجأة "ملك" ضاحكة:
"هيا بنا إلى مكتبة 'الراية'، لأرى الشخص الذي حرّك ماستنا إلى مكتبته وجعلها تفكر بالعمل هناك! هيا بنا!"
وصلا إلى مكتبة "الراية"، وهناك… التقت عينا "ماسة" بـ "علي"، الذي بدا أكثر هدوءًا من المعتاد. لكنه ما إن رآها تدخل بصحبة "ملك"، حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، غامضة نوعًا ما، وكأنها تحمل شيئًا لم يُقال بعد.
قال لها بصوت منخفض بعد التحية:
"المكتبة اشتاقت إليكِ… وبعض الكتب ظلت تنتظر من يعيد ترتيبها."
ثم رمق الصورة الصغيرة المعلّقة في يد "ماسة"، ولاح شيء من التوتر في عينيه، لكنه أخفاه بسرعة، قائلاً:
"أظن أن هذه القصص… لا تزال تحاول أن تُكتَب."
لقد دهشت من كلامه المبطن لها٬ لكن ما أدهشها أكثر هو ظهور امرأة خمسينية، ترتدي عباءة أنيقة ونظارات طبية، دخلت المكتبة وهي تقول:
"علي، أخبرتك أن لا تترك كتب والدك القديمة هنا… إنها تثير حساسيتي النفسية!"
ضحكت "ملك" وهمست لماسة:
"أظن أننا أمام أم علي!"
قالت المرأة بنبرة صارمة:
"آه… هل هذه هي؟!" ثم اقتربت من "ماسة" وهي ترفع نظاراتها: "ماسة؟ ابنة أمنية؟"
تجمّدت ماسة لحظة، قبل أن تهمس:
"نعم… تعرفين أمي؟"
ابتسمت المرأة، وقالت:
"أنا خالتكِ، حنان. لكن يبدو أن أمكِ قررت أن تقطع كل خيوط الماضي. ولم تخبرك عن عائلتها بصورة واضحة"
تبادلت "ماسة" و"علي" النظرات، وصوت "ملك" في الخلف يهمس" لماسة":
"هل علي ابن خالتك؟! ولِمَ لا؟ القصة بدأت تشتعل! ربما هذه المرأة تعرف كل شي؟"
في تلك الليلة، جلست "ماسة" أمام دفترها، وكتبت:
"هل كانت أمي تخفي عليّ كل هذا طوال الوقت؟ ولماذا؟
وهل عليّ أن أصدق كل ما يُقال… أم أبحث بطريقتي؟"
رفعت نظرها إلى "ملك" التي كانت تضع خيارًا غريبًا من الموسيقى وتؤدي رقصة عشوائية:
"غدًا… نزور المستشفى ٤١، صحيح؟"
ردت ملك وهي تمسك فرشاة الشعر كأنها ميكروفون:
"أكيد… وسنكشف أسرار الكون… لكن أولًا، نحتاج الى فطور جيد٬ فعقلي لا يعمل على معدة فارغة"
ضحكت "ماسة"، وأغلقت دفترها.
أسئلة تنتظر الإجابة
- ما الذي تخفيه "حنان" عن الماضي؟
- ولماذا قُطعت صلة الرحم بين الأم وأقرب الناس لها؟
- وهل المستشفى ٤١ سيكشف الحقيقة… أم يقود إلى سرّ أكبر؟
الفصل الثامن
كان المساء هادئًا... هدوءًا خادعًا.
كأن البيت يحبس أنفاسه، وكأن الجدران تعلم أن شيئًا ما سيُقال الليلة، وأن السر الذي سيُكشف سيؤلم صاحبه قبل غيره.
في الزاوية البعيدة من غرفة أمها، جلست "ماسة" تنوي ترتيب بعض الأوراق، لكن القدر كانت له كلمة أخرى…
قاد يدها إلى شيء آخر. شيء لم يكن يجب أن تعرفه.
صندوق خشبي قديم، مغلق بإحكام، لكنه لم يكن موصدًا بالكامل.
فتحته بحذر، لتجد داخله شيئًا لم تتوقعه:
صور قديمة، بعضها ممزق، أوراق صفراء، ورائحة الزمن العتيق…
رائحة تشبه الخوف، والخذلان، وربما الغياب.
"لماذا تحتفظ أمي بهكذا أشياء؟ ما غايتها؟ هل هذه الصور لعائلتها؟!"
لكن ما جذبها حقًا… صورة لرجل شاب لم تُمزق بالكامل، يشبه أخيها آدم بدرجة مريبة، يحمل طفلة صغيرة.
كتب على ظهر الصورة، بخط خافت: "سليم".
تجمّدت "ماسة".
"من هذا الشخص؟… هل هو قريب لأمي؟ ربما يكون أخاها…؟"
دخلت "أمنية" فجأة.
وقفت للحظة دون أن تتكلم، ثم اقتربت ببطء، كأن خطواتها تُخرج شيئًا ثقيلًا من أعماقها.
"كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتي..."
جلست بجوار ابنتها، ونظرت إلى الصورة طويلًا، ثم تنفّست بعمق، كأنها تنتزع الكلمات من قلبها:
"سليم… أخي الوحيد.
نشأنا في بيت مليء بالصراخ، والخوف، وكل شيء فيه كان محسوبًا بدقة.
كنتُ الأصغر، الأهدأ، الأضعف.
أما هو… فكان الثائر.
تمرّد على كل شيء: العائلة، التقاليد، حتى اسمنا.
وفي لحظة… طُرد من البيت.
اختفى سليم، وبقيت أنا… وحيدة وخائفة."
"لكن لماذا أخفيتِ كل هذا؟ لماذا لا نعرف شيئًا عن عائلتك؟"
"لأنهم هم من تركوني أولًا.
حين قررتُ أن أتزوج أباكم، رفضوا.
قالوا: ليس من العائلة، لا يليق بنا.
هددوني، طلبوا مني أن أتركه.
لكني تمسّكت به… لأنه كان الوحيد الذي فهمني.
ثم تبرؤوا مني.
وقلت: فليكن.
تركتهم ومضيت، وأنا حامل بآدم.
كنت أريد حياة جديدة… نظيفة، بعيدة عن الصراخ والقلق."
تأملت "ماسة" أمها طويلًا.
رأتها لأول مرة… لا كأم فقط، بل كامرأة نزفت بصمت، وتحطمت وما تزال تحمل رمادها وحدها.
"وماذا حدث لهم؟ هل… ما زالوا أحياء؟"
"سليم مات منذ سنوات، في حادث غامض لا أحد يعرف سببه.
أما البقية… فقد قرروا أن لا وجود لي."
💠 في بيت بعيد…
جلس "علي" في غرفة واسعة داخل بيت تراثي الطابع، يعبق برائحة الخشب والذكريات.
الجو كان مشحونًا رغم السكون، ووجه عمّته متصلبًا كالصخر.
"أمنية… ما زالت تنكرنا؟"
"لم تتصل، لم تزر، لم تبعث حتى عزاء حين مات أبي."
"إذًا جاء وقت ردّ الكرامة.
لن نُعيدها بالقوة… بل بالحيلة.
ماسة، ابنتها… سنُعيدها إلينا.
وسندخل أمنية بيتنا، مُجبرة… حين تصبح أمّ زوجتك."
"اتركوها وشأنها…
هي اختارت زوجها، لماذا لا تريدون أن تروها مطمئنة مع أولادها؟
علي، أنا ضد هذه الفكرة… لا تسمع كلام عمتك، صدقني ستندم."
رفع "علي" رأسه ببطء، نظرة أمه أثّرت فيه، لكنه لم ينطق.
في عينيه وميض غريب… خليط من التردد والغضب والتخبط.
"وإذا رفضت ماسة؟"
"لن ترفض.
لا فتاة في هذا العمر ترفض يدًا تمتد لها من تحت الرماد.
وخاصة إن كانت منهكة… ومكسورة."
"وكيف نجعلها توافق؟ وإن وافقت، قد ترفض أمها… أو أخوها، وتفشل خطتكِ."
"انتظر فقط… سأجعلها توافق، مهما حدث."
💠 ماسة من جديد...
كانت "ماسة" تقف أمام المرآة، تحمل صورة خالها… تتأمل عينيه بعمق.
وفي عينيها دمعة… لكنها لم تسقط.
رن هاتفها… إشعار من رقم مجهول:
"مساء الخير… هل أنتِ ابنة أمنية؟ لدي شيء يخص خالك سليم."
ارتجفت أصابعها…
وفي قلبها، بدأت فصول أخرى من الحكاية تُكتَب.
نهاية الفصل الثامن
لكن البداية الحقيقية قد بدأت لتوّها…